فموهبتك الشعرية هي عطيّة من الله منحدرة
مع أن الله، عزّ وجلّ، لم يمنّ عليّ بعطيّة موهبة الشعر، وبالتالي فأنا لست شاعرا، ولكنني أقدّر الشعر والشعراء، الذين تتجلّى فيهم موهبة الشعر، لأنني أعتبرهم شركاء الخالق في الإبداع شعرا وصورا شعرية وشعورا مرهفا ووقعا موسيقيا، لأن الموهبة الربّانية تنقلك على أجنحتها الى عوالم الجمال فتنتشي بها وتطرب....
أقول هذا لأنني عندما طلب منّي الشاعر الصديق عصام ملكي، أن أكتب مقدّمة لديوانه الشعري الجديد " الديوان الملكي الثالث " ، شعرت بالمسؤولية الكبيرة التي وضعها الصديق عصام على كاهلي، وذلك من منطلق قناعتي المبدئية، بأن من وهبه الله موهبة الشعر هو من يستطيع أن يقيّم شاعرية شاعر آخر، مع تحفّظ، ربّما نادر غير أنه واقع معيوش، وهو أن الشاعر مهما ترفّع والتزم الحياد، قد يجد إحراجا في أن يقيّم شعر غيره من الشعراء، وأستميح الشعراء عذرا، إذا قلت أن ذلك هو على أساس قاعدة بشرية هي: " ما إلك عدو إلا عدو الكار " مع أنني أعرف وأعترف بأن الشعر ليس مهنة أو كارا، لذلك، وبما أنني لست بشاعر، فإنني لن أكون في هذا الوارد النادر إطلاقا، بل سيكون كلامي في شعر الشاعر عصام ملكي، مستندا الى ما أحسست به وما أثاره شعره في نفسي من
مشاعر... لأنني، وبكلّ صراحة وتجرّد أقول: أن إبداء الرأي في النتاج الشعري وجماليته وإبداعه ومدى نجاحه في تصوير المعاناة الشعرية التي يمرّ بها الشاعر فتولد في قريحته القصيدة... هذه المهمّة، يُمكن أن تكون من حقّ كلّ متذوّق للشعر والجمال، وكمّ من النقّاد في الشعر والأدب همّ في الواقع ليسوا شعراء ولا أدباء؟ ...
من هذا المنطلق، فقط ، تشجّعت على أن أكتب هذه المقدّمة.
أذكر أنني عندما قدّمت للشاعر الصديق باكورة نتاجي الفكري المطبوع، أي كتابي " وسائل الإتصال عبر التاريخ، من الكهف الى الإنترنيت، في جزئه الأول: " من الكهف الى الراديو" ، بادلني الشاعر بأن أرسل لي مجموعة دواوينه الشعرية، فتلقفتها بشغف وقرأتها بإهتمام ونشوة، فحملتني شاعريته الى مجالات وصور شعرية لا يحسّ بها إلا الشاعر الموهوب. فأغوتني طريقته في التصوير والتعبير باللغة العامية وبالفصحى وبالزجل اللبناني على مختلف فنونه معنّى و قصيدا وقرّادي وجميع متفرعاتها، فالشعر الشعبي بنظري المتواضع، هو أقرب الشعر الى الأحاسيس البشرية، لأنه يُخاطب الإنسان بلغة واقعه المعيوش، فلاحا كان أم مزارعا أم راعيا أم عاملا ... مثقفا كان أم أميّا، حبيبا كان أم محبوبا، عاشقا كان أم معشوقا... يخاطبه باللغة الأقرب الى أذنه وحياته اليومية ... فإذا الشعر الشعبي لديه كما لدى معظم الشعراء الشعبيين، أغنية وجدانية تعكس الواقع اليومي بعيدا عن الصناعات اللفظية وإعجازات اللغة بل قلّ تعجيزاتها ... وأنا لا أقصد التجريح بالشعر المنظوم باللغة الفصحى، غير أنني أعبّر ما يُمكن أن يجول في خاطر إنسان بسيط يستمع الى قصيدة منظومة على أوزان" الفراهيدي" وبلغة معقّدة وصعبة الإدراك لما فيها من التعابير البلاغية، لا شكّ أنه سيقول عنها بأنها قصيدة عويصة الفهم، وقد يجد نفسه عاجزا عن فهمها، وبمعنى آخر، سيقول عنها: بأنها قصيدة تعجيزية ...هذا طبعا بالنسبة له... في حين أنه عندما يسمع قصيدة زجلية شعبية فهو يفهم، بكلّ سهولة، معانيها
وكلماتها وتعابيرها وإستعاراتها، فيتجاوب بعفوية معها بأحاسيسه ومشاعره، فيطرب بها وينتشي...
يشعر القارىء أحيانا بمسحة حزن تغلب على بعض قصائد شاعرنا عصام ملكي، التي يغلّفها باليأس والقنوط فتشعر وأنت تقرأها بأن الشاعر يمرّ في حالة كئيبة يجعلك " تتسودن" معه وتشاركه الحزن والأسى لأنه يحرّك مشاعرك العفوية فتتعاطف معه، وتحزن لحزنه وتحاول أن تفعل شيئا ما لتخفّف عنه هذه الأحزان.
"... كلما عليّ يكتروا الأوهام
بتحبحب الآخات عنقودي
وكلما بعيوني إستوطنوا الآلام
معاول دموعي بيحفرو خدودي
بنور الشمس ما عاشت الأحلام
ومَنها ليالي النار موجوده
ومحتار شو بعمل بهالأيام
تقمّص وجودي التبغ والتنباك
وما في زمان يسوكر وجودي "
***
وفي قصيدة أخرى يقول:
"....أتركيني بهمتك إجمع شتاتي
خلاصي من الوجع إيدو قصيرة
وكتر ما الدهر عذّبني بحياتي
وقع عالأرض وتفجّم مصيري"
***
وفي قصيدة أخرى يقول:
"... بالقلب مات الفرح وتيتمو السهرات
وعا كل بسمه الحزن ساحب بواريدو
وسنة اللي كانت ملو عم تلبس فراغات
وقطاع " جوّ الحلو " إنقطعت مواليدو "
***
واحيانا أخرى يراه القارىء وهو في أوج فرحه وسعادته فتحملك حاله البهجة على أن تشاركه أفراحه وكأنها
أفراحك أنت... وتحسّ بأنّ الأحاسيس التي يصفها في قصيدته هي أحاسيسك أنت بالذات لأن المقدرة الشعرية الحقّيقية تكمن، أولا وآخرا، في مقدرة الشاعرعلى أن يجعل القارىء يشعر معه بكلّ الأحاسيس والمشاعر، الحزينة منها والمفرحة، المغمّسة بالقنوط أو الطافحة بالأمل والتفاؤل...
وفي الغزل، و كثيرة هي القصائد الغزلية عند شاعرنا عصام ملكي، فهو على ما يبدو، يتنفس غزلا، ويأكل ويشرب غزلا ويسكر ويغنّي غزلا ... حتى تخال أن شاعرنا رهن قد أبيات شعره للغزل كما رهن أحيانا "بيوته " بسبب الطفر، كما يقول في إحدى قصائده ...
ففي قصيدة " غزل" في هذا الديوان، يلفت إنتباهك الطريقة البارعة التي يصف فيها شاعرنا مشاعر الحبّ والهيام بأسلوب فريد ومعبّر وبسيط ومختصر جدا، حيث يقول:
" ضلّي معي ما بريدك تضيعي
منشان إشرحلك مواضيعي
ما قدرت حالي عن دروبك لمّ
وكلّما مسحت وجهي بإيدي بشمّ
ريحة سلامك بين صابيعي "
ففي خمسة أبيات فقط جعلنا الشاعر أن نحسّ كمّ أن طيف الحبيبة يملك عليه مشاعره كلّها فيأسره ولا يفارقه أينما حلّ، ويظلّ عطرها يتغلغل في أحاسيسه.. وتصرفاته...
وفي قصيدته عن التقدّم في السن" الختيرة " التي يسير ونسير كلّنا على دروبها، بقدر ما يمدّ الله في أعمارنا ، يرسم شاعرنا هذه المرحلة، بريشة شاعرية وبأسلوب واقعي فيقول:
" من هالدني ما بقول متشكّر
عليي زمان الختيرة بكّر
لما مرقت عا مراية البدار
تطلعت فيها وقلت ياستار
هيدا أنا؟ ما بقيت إتذكّر "
***
وصف دقيق ومعبّر يُعطي القارىء فكرة عن بعض مفاعيل" الختيرة" الجسدية والفكرية بحيث أن المتقدّم في السن ونظرا للتغيّيرات التي تطرأ على جميع مظاهره الجسدية الخارجية، تجعله يتساءل مستغربا هل أن من يراه في المرآة هو نفسه ذلك الشخص الذي كانه هو منذ مدّة؟ ولكن شاعرنا عبّر عن ذلك بصورة شعرية غاية في الإبداع، عبّر عنها بأحد مفاعيل التقدّم في العمر... أي ضعف الذاكرة.
مع أنني شخصيا، أرى أن " الختيرة" هي في الواقع إنعكاس لما تكون عليه نفسية الإنسان بصرف النظر عن سنوات عمره، فقد يكون المرء شابا، غير أن نفسيته شاخت وهرمت قبل الآوان، فيشعر بالختيرة المبكّرة، وبالمقابل، فقد يكون المرء طاعنا في السن ومختيرا، غير أن نفسيته لا تزال زاخرة بحيوية الشباب ونشاطهم وطموحهم... ولعلّ أقتم حالات " الختيرة " سوادا هي حال الشاب الهرم الذي مات عنده الأمل والطموح، فختير باكرا، ذلك لأن الحياة هي قبل كلّ شيء الأمل والتفاؤل.
أما عن شعر الفخر والإعتزاز، فحدّث ولا حرج، فنفسية شاعرنا تعبق بهذه "الشعطة التشاوفية " المحبّبة، فهو إذا ما شرب كأس الفخر والإعتزاز بالتفوّق، جال وصال وأبدع، ولا يتوانى عن أن يُترع خصمه كؤوس خيبات الأمل مليئة ويكيل له ضربات موجعة من " عصامٍ " حذف آخر حرف فيها، فتعلّم هذه... في جلده وأحاسيسه .
و طالما أنا أكتب هذه المقدّمة، للتعريف بشعر عصام ملكي أسمح لنفسي أن أعود الى قصيدته " من الأرشيف " في ديوانه الملكي الثاني حيث يقول:
" أنا بمواهبي فجر المندّي
معي الأشعار عم تاخد مداها
إذا للأرز بنظم فرد ردّه
فمّ الميزاب بيردّد صداها
ما فيك بساحتي تقدر تهدّي
المراجل فيك ما بترفع لواها
بكفّي الضربتو متل المهدّه
خدودك عالغدا بتاكل عشاها"
***
في هذه القصيدة نرى شطحات الشاعر الشعرية ، ونحسّ "تسلطنه" الفريد العابق بالعنفوان والشعور بالتفوّق، من جهة والإستخفاف بالخصم، من جهة ثانية، وهي شعطات ومغاليات يصحّ فيها القول حقا، بأنها تدخل في باب:
" يجوز للشاعر ما لا يجوز لغيره" ، ففي هذه القصيدة حلّق الشاعر في سماء " التسلطن" والمغالاة الشعرية المحببة جعلته يقول لخصمه وبروح متعالية ووائقة:
"... وبنظم الشعر عم آخد مدايي
نجوم الفنّ بتشعّ بسمايي
ورايي متلك ألوفات شالح
تعا تا إشلحك هلّق ورايي
بدّي عالمنابر شعر صالح
وبدايه يكون ما إلها نهايه
ما جيت لهون تا ساير وصالح
حرف الميم من إسمي حذفتو
تا يحفظ جلدك متيلة عصايي "
ويبدو أن شاعرنا قد إستهوته طريقته المبتكرة هذه في التأديب، فهو يلجأ إليها في مواقف مُتعدّدة ...
وقياسا عليه نجده في قصيدة أخرى يقول:
"... أنا بالشعر حاكم هالولايه
المعنّى ما إلو قيمة بلايي
بشعر المرتجل عندي مهمّه
تا أطعم كلّ متمرّد بلايي
قلت للأبجديّه: هون شمّي
العبير العالدرب رايح وجايي.....
قلت للنفس : دخل الربّ أمّي
الربوع البلحلا ملها نهايه
عا كلّ مقاطعه وعا كلّ أمّه
ابعتي مشاوير تشرح مستوايي
لا بيّي بعدّك ولا إنت أمّي
إنت عا منبرك إبن الحكايه
لما صرت بالأخلاق أمّي
حرف الميم من أسمي حذفتو
تا علّم جلدك متيلة عصايي"
***
هذا"التسلطن" المحبّب يُعطي للشاعر حقوقا وإمتيازات فوقية، ليست لغيره، لأن مصدرها هو من فوق من السماء....
وهنا تحضرني في هذه المناسبة قصّة سمعتها أيام كنت أعمل في جريدة " الصفاء " الغراء في بيروت، وكان ظريف لبنان المشهور والمحبوب الفكاهي الزحلي نجيب حنكش- رحمه الله- يكتب زاوية أسبوعية عنوانها: " حنكشيات" . وذات يوم حضر نجيب حنكش الى الجريدة لتسليم مضمون زاويته، فأخبرنا هذه القصة بلهجة زحلاوية مميّزة، فقال:
" يُحكى أن ملكا كان لديه وزير أول يحبّه ويحترمه ... وفي أحد الأيام جاء شاعر لزيارة الملك ولما دخل الشاعر قاعة العرش الملكي، وقف الملك ونزل عن عرشه وخطا خطوات لإستقباله، الأمر الذي أحبط الوزير الأول، ولكنه كبت مشاعره ولم يعبّر في الحال عن إحباطه للملك.
وفي اليوم التالي بينما كان الملك يتبادل الأحاديث مع وزيره، في جو من الإلفة والودّ والثقة المتبادلة، أغتنم الوزير الأول هذه المناسبة وقال للملك:" يا جلالة الملك كمّ لي من السنين وأنا أخدمكم بكلّ إخلاص وأحترام، ولكنكم لم تقوموا عن عرشكم مرّة واحدة لإستقبالي عندما أدخل عليكم...في ديوانكم الملكي، ولكن عندما زاركم البارحة ذلك الشاعر قمتم وأستقبلتموه بحفاوة فائقة...
فنظر الملك الى وزيره وهزّ رأسه وقال له: " أنت تعلم بما لي من سلطان وأنني بجرّة قلم واحدة وبمرسوم ملكي
أستطيع أن أجعل من أي شخص كان وزيرا أو سفيرا أو حاكما أو واليا... ولكنني رغم كلّ ما أملك من سلطان، فأنا لا أستطيع أن أجعل من أي إنسان شاعرا أو فنانا... الله وحده، سبحانه تعالى، قادر على ذلك. وأن الإنسان بمرسوم من الله يُصبح شاعرا، لأن الله وحده لديه هذه السلطة وهذه المقدرة. وختم الملك كلامه بقوله: "عندما وقفت للشاعر فأنا في الواقع وقفت إجلالا للقدرة الإلهية التي منحت هذا الشاعر موهبة الشعر، لأنني ، أنا الملك القدير والمتسلطن، أجد نفسي عاجزا عن القيام بمثل ذلك.....
عزيزي الشاعر عصام ملكي، فعلى هذا الأساس، ومن نفس المنطلق والمفهوم أقول لك أيها الصديق العزيز، إنك شاعر محلّق بمرسوم من الله سبحانه تعالى، وعندما يقدّرك الناس فإنهم يقدّرون فيك الموهبة التي أسبغها الله عليك، فأجلس يا عصام على عرش الشعر في ديوانك الملكي، وتسلطن عليه، لأن موهبتك هي من العلاء منحدرة من لدن الله. كيف لا ...؟؟؟ وشعرك ينبض بالعفوية والصدق والإبداع، وقصائدك تصوّر بريشة مرهفة الأحاسيس، الجمال الذي أبدعه الله في الطبيعة الخلابة وفي المخلوقات والكائنات على تنوّعها، وتصفها أنت في مختلف حالاتها وأحوالها الخلابة بصور شاعرية يعجز على من حرمه الله النعمة التي وهبك إياها، أن يحاكي الله في الخلق والجمال والإبداع.
يكفيك فخرا، يا عصام، أن موهبتك الشعرية هي عطيّة من الله، فأهنأ بهذه العطيّة الربّانية السماوية ولا تبخل على قرائك بفيض من ثمار هذه الموهبة لتكثر دواوينك الملكية وألف مبروك وفّقك الله...
ودمت سالماً: بول خيّاط
ملبورن ، 10 نيسان 2009
0 comments:
إرسال تعليق