الصفحات

ننشر في هذا الموقع أشعار الشاعر الكبير عصام ملكي

الدكتورعصام حوراني - بيروت: "الشّروقي" يحكي ... ويحكي مع عصام ملكي

  نعم، يحكي "الشّروقي" ويُبدع، ويتألّق! فما بال هذا الفنّ الشرقيّ البدويّ الأصيل يتباهى ويزهو بجماله الفتّانِ خارج خيام مضاربه وربابه، يسمو لا في بوادي العربان فحسب، بل في أستراليا ولبنان مع شاعر أنيق شرقيّ السِّمات، تدفعنا شروقيّاته لنلتفت إلى الوراء، إلى الأيّام الخوالي، نحاور ونناقش ونتذوّق الفنّ الأصيل بمعيّة شاعرنا الكبير عصام ملكي.

"الشّروقي"، شعر فيه شجى وحرقة، فيه هجر وفراق، فيه آهات وحسرات تنطلق من أعماق النفس الإنسانيّة. هو نوع من الشعر الشعبيّ العربيّ، ولعلّ منبته كان في مشرق الأرض حيث مطلع الشمس، في بواد شرقيّ بلاد الشّام نحو جزيرة العرب، حيث يتنقّل البدو الرحَّل بماشيتهم من واحةٍ إلى أخرى، في ظروفٍ صعبة في أكثر الأحيان. تواجههم المصاعب والمصائب، فتضجّ نفوسهم بالحزن، وبألم الفراق والهجر والبُعد والحبّ العذريّ المضطرب كما حياتهم المليئة بالقلق والضياع. هكذا حُمِّلت النفوس التائهة بشحناتٍ من هذه المشاعر الدّامعة، يبثّها الشعراء ألحانًا رقيقة بدويّة الطابع لغة ومضمونًا على نغمات الرّباب. وشاعرنا الملكي الذي عانى بنفسه الغربة والترحال قد استهوته هذه الألحان منذ مطلع شبابه فراح يبثّها في غربته شروقيّاتٍ أخّاذة بلغة لبنانيّة تتناول موضوعات كثيرة من صميم الحياة، ترتبط بالنفس الإنسانيّة وما يعتمل فيها من مشاعر وأحلام. شروقيّاته التي اخترناها في هذا المقال، هي جزء من أدبه الشعبيّ الرّاقي المختلف الأنواع والمرامي، الذي يتدفّق سلاسة ورقّة وجمالا. فأنت تتنقّل معه منذ بداية السبعينيّات من "عذاب الحبّ، إلى "دمع دم"، فإلى "شقفة حجر"، وإلى "ألم وقلم"، ومع أفول القرن المنصرم وفجر القرن الحاليّ يصدر له بالتتابع "الديوان الملكيّ" في أجزائه الثلاثة.

لقد اخترتُ من هذه الدوحة المِلْكيّة "الشروقي" الذي برع به كما برع في غيره، ولكنّي وجدتُ في شروقيّاته نفثاتٍ معبِّرة صافية عذبة تتدفّق من أعماق النفس والوجدان، ومن قبس الرّوح، بلا تكلّف ولا تصنُّع ولا اجترار. عندما يتشظّى اليأس والقنوط والهموم خارج الذّات العميقة، يرتاح الإنسان الشاعر لأنّ ثمّة مَن يُشاركه همومه وأوجاعه، والذي يقرأ أشعار الملكي يُصبح صديقه الذي يُلازمه من دون أن يلقاه، وهكذا تصبح سدني مع شروقيّاته بيروت وبشمزّين وطرابلس وجزّين.،"ولمّا ارتجلنا الزّمَنْ عا بعضنا جينا"، ونُردِّد مع الملكي:

وعِنّا مرابع سَهَـرْ فيها الطّرَبْ  طوفــان

وعــا كـلْ مَفــرَق دربْ دِكّانِــةِ  سْمانـِـه

وكمـان عِنّـا ضِيَـعْ تِشْـبِـه ضِيَــعْ لبنـــان

لكِــنْ مــا عِـنّــا قعــد تحْــتِ السِّنِـدْيـانِــة

يحمل اللبنانيُّ معه أبدًا عاداته وتقاليده إلى أقاصي المعمورة، فتبقى تلك تلازمه وتدغدغ مشاعره في سُوَيعات كَرَبِه وفي تأمّلاته وشطحاته، تبقى جذوره متشبِّثة، بالرّوح والنفس، بهذه الأرض الأمّ التي ترحّل عنها لأسبابٍ وأسباب، ومهما يحلّ به في بلد الغربة من ضيقٍ أو مِن خير عارم تبقى صُوَر لبنان قابعة في لاوعيه، ولقد جسّد الملكي هذه المشاعر بأصدق تعبير فقال:

الغربِة ملانِــه قهـر والمـنـفــعَه  أطنــان

فيـهــا  لقينــا عمــل يرفعـلنــا  مَكــانِـــه

وقِلنا الشُمــوخـو انعَـرَف ببْلادنـا ربْيـان

لو اســترالي انجَبَـــلْ بيضَــل  لبنـــــاني

وقال أيضًا :

مفروض يمشي الغِنا ولو كان كيفما كان

تا نْقولْ يا بو الزُّلـُفْ عا العَيْــنْ لا قيـنـا

شاعرنا في شروقيّاته يُقارب الحقيقة ويُجاهر بها، ولو كانت مُرّة وتخدش أحيانًا. أشعاره لسان حال كلّ إنسانٍ تائهٍ أو مقيم في هذه المعمورة، هي لسان حال الحقيقة المجرّدة التي يتناساها الناسُ بانشغالهم في أمور الحياة وتفاصيلها المختلفة. الحقيقة تتجلّى في العمر الذي يمضي مسرعًا لتحلّ الشيخوخة بمشكلاتها الجسديّة، فتستبدَل نضارة الشباب وعنفوانه بعجز على كلّ المستويات، كما أوراق الخريف في تشارين الحياة، ونسمع الملكي يقول:

مِش بَسْ راح الحلا واجردَّتِ الألوان

بالحب مــا في أمـل  بيقيــم القيامِـــه

هَرْهَرِ وْراقو الجسَد وتغيَّـر العــدّان

وأغصان ما في بقـا تنيْناتنـا قرامـي

هكذا حال الملكي الذي يُحاول أن يبتعد عن الهموم وعن الحقيقة القاسية بصور خلاّبة من عالم حلو مضى، فيستعيده بالخيال ويُجسِّده حبًّا وصبابة،  إنّه يغدو بمشاعره هذه طفلاً يحبو على دروب الرَّجل، على حدِّ قول "وليم واردسورث". وطفل عصام الملكي يكبر ويمتطي حصان الشباب بفرح على طرقات العمر القاسية، وكما قال محمّد مهدي الجواهري:

عـمــري بروحــي لا بـعــدّ سِنينــي      ولأسخــرنَّ غــدًا من التسعيـــنِ

عمري إلى التسعين يمضي مُسْرعًا        والـرّوحُ باقيـــةٌ على العِشريـــنِ

ويقول الملكي  في استراليا مودِّعًا زغلول الدامور وموسى زغيب:
وقالوا دعسنا سوى عا رقبة التسعين/  وكلمن رسول الشعر عا حد تعبيرو
وقال من قصيدة له بعنوان "سباق العمر":

شيلي غشــاوة سـَـهْو مِــنْ خِلْقِـــةِ التفكيــر

وجيبي صِباكي وْتَعي تـا الوقت نِصطادوا

إلنـــا المحبِّــه دَوا  وأيّــامنــا  سْــواكيـــر

ولا يـوم كنّــا الصَّــنَــمْ  نِنعَــــد عِـبّــــادو 

إلى أن يقول:

ودّي شي شلحـة نَظَــرْ تـا جِنْ فيها وطير

وخلّي زمــان القهــر يرجَــع على بـلادو

.......

خلّي بصيص الأمل ما يضلْ طِفل زْغير

حتّى بسبــاق العمــر يركب على جـوادو

وشاعرنا، يصوِّر حال مَن تقدّمت به الأيّام، صار يرى "كلّ الدني عا فرد تشكيله" وصار يرى أنّه ما مِن فائدة في لقاء أحبّة الأمس في عهد الشباب، لأنّه كما فعل جورج برنارد شو، عندما مرّ بعد طول غياب إلى بلدةٍ كان له فيها حبيبة، لقد حاول أن يتّصل بها أكثر من مرّة، وفي كلّ مرّة كان يتردّد ويتراجع، إلى أن ترك الهاتف وقال: ماذا سوف أقول لها!؟  وهكذا حال شاعرنا الملكي الذي قال بكلام أبلغ وبصور فيها حركة وحياة:

ولمّا جمعنا الظّرف صارِ السُّكوت سلاح

وفقّسـت زرار الغـزل تا يـدور تفكيــري

ومنشــان يمشـي الومــا بيناتنــا مرتــاح

ونِخْــرِبِ دْيــار الحكـي قلتلــها بالحــال

لِمّــي حـروف الهِجـا مِن درب تفكيـري

قال الأخطل الصّغير، شاعر الهوى والشباب، يوم تكريمه في قاعة الأونسكو الكبرى في بيروت وتسليمه إمارة الشعر من قِبَل شعراء العرب:

أيوم أصبحتُ لا شمسي ولا قمري مَن ذا يُغرِّد على عودٍ بلا وتــر

ما للقوافــي إذا جاذبتُــها  نَـفـرَتْ     رَعَتْ شبابي وخانتني على كِبَرِ

ويعبِّر الملكي عن هذه الحالة بصورٍ تنبض حياةً، فيها رونق ورقّة، وإشراق، تدخل الآذان بلا استئذان، فنسمعه يقول:

بالأمس كان القلــم فـوق الورق خيّــال

يكتب قصايــد إلـي  واغــزل قوافيـــها

واليوم مَنّو الوحي محسوب ابـن حلال

ويمكن حروف الهجـا نِسْيـت أساميـها

ولبنان الذي أحبّه الشاعر كثيرًا، لم يجد في الأفق القريب ولا البعيد حلاً لمشكلاته، فتملّكه اليأس أخيرًا من هذا الوطن الأشلاء، الذي ينهش منه أصحابُه قبل كلّ عابر سبيل، وذلك بعد أن أصبح هذا الوطن لقمة سائغة في أفواه الشرهين مِن تجار الوطنيّة والعمالة. وغدا الوطن  معروضًا للبيع، فيقول:

بلبنان وصّى الحجـر تا يوقف العمــران

وكِلمــا التقينـا بفـرص للحـل بيضيعـــو

ومش بس ما في أمل إنّو العدل ينصان

كلّ اللي اسمـو غلط عالدرب تِشريــعو

ويطول الكلام على شعر عصام ملكي، فأنتَ تتنقّل معه في شروقيّاته من صورة إلى أخرى ولا تملّ أبدًا، ففي كلّ مشهد أو موضوع لون جديد يحمل معنىً مميَّزًا، وترى المعاني وقد تلبَّبت لدعوته، وقامت الألفاظ في خدمته بمرونة ولباقة ورشاقة، وهي مرصّفة بتشبيهات جديدة، واستعارات بديعة، وكناياتٍ لطيفة من مثال: "بدّي شي نسمة هوى تا اكسر صيامي"، "وما عاد شلش الحيا تحت الجلد لاطي"، "واجلي صحون الغنا لوجبة مواويلي"، "وقت اللي صار الهجر يمغِّط مسافاتو"، "قدّيش بدّو الصبر يغلي بحص عا النار"... وغيرها وغيرها من هذا العيار وأجمل. 

فيا شاعرنا العزيز، يا ناظم اللآلئ المبدع، حيّاك الله وبيّاك وأدام تغريدك في دوحات الحبّ والفنّ والجمال والإبداع.

تعليق الشاعر عصام ملكي
  
عصـام كلك وفـا وبقلك باصــــــــرار
كاتب عاباب القلب ما بريد تنســــاني
بشعر الشروقي قلت مغروم يــا سـتار
كرمال عينك الك رح دحرج لســـاني
---
كلامـك جـواهـرالي ومني عليك بغــــار
حبيت كلمـة قعد تحــــت السـنديـانـــــه
كـلو لانـــك انـــت بتقدِّر الاشـــــــــعار
وبتحـب تقشـع صـور مـافي لها تـانــي
--
نحنا بـذات الاســــــــم وبتشهد الافكار
عنـد الدويهي لنـا عـا ذوقنـا مكانـــــه
بيصير متلي حـدا ومتلك بعد مـا صار
القـاصي بيقلك قـبـل مـــا يقلك الدانــي
---
بـالـهـم عـايش انــا والكـيـف بالايجــار
ومن ذكرياتي وقع عا الارض عنواني
كـلما شلحت النظر عـــا مرايـة البـدار
تــا جيب كمشـة فـرح للقلـب والعينيـن
بكتب عــا صـدري انـا عصام حوراني